فصل: تفسير الآيات (27- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



لقد جربهم فحق له أن يشفق، وهو يدعوهم دعوته الأخيرة، فيحشد فيها ألمع الذكريات؛ وأكبر البشريات، وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات:
{يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}..
نعمة الله. ووعده الواقع من أن يجعل فيهم أنبياء ويجعلهم ملوكاً. وإيتاءه لهم بهذا وذلك ما لم يؤت أحداً من العالمين حتى ذلك التاريخ. والأرض المقدسة التي هم مقدمون عليها مكتوبة لهم بوعد الله. فهي إذن يقين.. وقد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده. وهذا وعده الذي هم عليه قادمون.. والارتداد على الأدبار هو الخسران المبين..
ولكن إسرائيل.، هي إسرائيل!!! الجبن. والتمحل. والنكوص على الأعقاب. ونقض الميثاق:
{قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}.
إن جبلة يهود لتبدو هنا على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل. ذلك أنهم أمام الخطر؛ فلا بقية إذن من تجمل؛ ولا محاولة إذن للتشجع، ولا مجال كذلك للتمحل. إن الخطر ماثل قريب؛ ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب هذه الأرض، وأن الله قد كتبها لهم- فهم يريدونه نصراً رخيصاً، لا ثمن له، ولا جهد فيه. نصراً مريحاً يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى!
{إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}..
ولكن تكاليف النصر ليست هكذا كما تريدها يهود! وهي فارغة القلوب من الإيمان!
{قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}.
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله، والخوف منه.
فهذان رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته- جل جلاله- ومخافة الناس.. والذي يخاف الله لا يخاف أحداً بعده؛ ولا يخاف شيئاً سواه..
{ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}..
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب.. أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم..
{وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}..
فعلى الله- وحده- يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه.. ولكن لمن يقولان هذا الكلام؟ لبني إسرائيل؟!
{قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}..
وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون؛ ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين؛ بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان. يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن. فيحرج بأنه ناكل عن الواجب، فيسب هذا الواجب؛ ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد!
{فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}..
هكذا في وقاحة العاجز، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان!
{فاذهب أنت وربك}!..
فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال!
{إنا هاهنا قاعدون}..
لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد.. ودونها لقاء الجبارين!
هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام. نهاية الجهد الجهيد. والسفر الطويل. واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل!
نعم ها هي ذي نهاية المطاف.. نكوصاً عن الأرض المقدسة، وهو معهم على أبوابها. ونكولاً عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق.. فماذا يصنع؟ وبمن يستجير؟
{قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}..
دعوة فيها الألم. وفيها الالتجاء. وفيها الاستسلام. وفيها- بعد ذلك- المفاصلة والحسم والتصميم!
وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه.. ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول. وفي إيمان النبي الكليم. وفي عزم المؤمن المستقيم، لا يجد متوجهاً إلا لله. يشكو له بثه ونجواه، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين. فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق.. ما يربطه بهم نسب. وما يربطه بهم تاريخ. وما يربطه بهم جهد سابق. إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله، وهذا الميثاق مع الله.
وقد فصلوه. فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق. وما عاد يربطه بهم رباط.. إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون.. إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون..
هذا هو أدب النبي. وهذه هي خطة المؤمن. وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون.. لا جنس. لا نسب. لا قوم. لا لغة. لا تاريخ. لا وشيجة من كل وشائج الأرض؛ إذا انقطعت وشيجة العقيدة؛ وإذا اختلف المنهج والطريق..
واستجاب الله لنبيه. وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين.
{قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين}.
وهكذا أسلمهم الله- وهم على أبواب الأرض المقدسة- للتيه؛ وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم.. والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة؛ وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل. جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود.. جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب.
ويتركهم السياق هنا- في التيه- لا يزيد على ذلك.. وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني، على طريقة القرآن في التعبير.
ولقد وعى المسلمون هذا الدرس- مما قصه الله عليهم من القصص- فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر، قالوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم. {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون..
وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة؛ وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل..

.تفسير الآيات (27- 40):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
يأخذ هذا الدرس في بيان بعض الأحكام التشريعية الأساسية في الحياة البشرية. وهي الأحكام المتعلقة بحماية النفس والحياة في المجتمع المسلم المحكوم بمنهج الله وشريعته. وحماية النظام العام وصيانته من الخروج عليه، وعلى السلطة التي تقوم عليه بأمر الله، في ظل شريعة الله؛ وعلى الجماعة المسلمة التي تعيش في ظل الشريعة الإسلامية والحكم الإسلامي. وحماية المال والملكية الفردية في هذا المجتمع، الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله.
وتستغرق هذه الأحكام المتعلقة بهذه الأمور الجوهرية في حياة المجتمع هذا الدرس؛ مع تقدمة لهذه الأحكام بقصة {ابني آدم} التي تكشف عن طبيعة الجريمة وبواعثها في النفس البشرية؛ كما تكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها؛ وضرورة الوقوف في وجهها والعقاب لفاعلها؛ ومقاومة البواعث التي تحرك النفس للإقدام عليها.
وتبدو القصة وإيحاءاتها ملتحمة التحاماً قوياً مع الأحكام التالية لها في السياق القرآني. ويحس القارئ المتأمل للسياق بوظيفة هذه القصة في موضعها؛ وبعمق الإيحاء الإقناعي الذي تسكبه في النفس وترسبه؛ والاستعداد الذي تنشئه في القلب والعقل لتلقي الأحكام المشددة التي يواجه بها الإسلام جرائم الاعتداء على النفس والحياة؛ والاعتداء على النظام العام؛ والاعتداء على المال والملكية الفردية؛ في ظل المجتمع الإسلامي؛ القائم على منهج الله؛ المحكوم بشريعته.
والمجتمع المسلم يقيم حياته كلها على منهج الله وشريعته؛ وينظم شؤونه وارتباطاته وعلاقاته على أسس ذلك المنهج وعلى أحكام هذه الشريعة.. ومن ثم يكفل لكل فرد- كما يكفل للجماعة- كل عناصر العدالة والكفاية والاستقرار والطمأنينة، ويكف عنه كل عوامل الاستفزاز والإثارة، وكل عوامل الكبت والقمع، وكل عوامل الظلم والاعتداء، وكل عوامل الحاجة والضرورة. وكذلك يصبح الاعتداء- في مثل هذا المجتمع الفاضل العادل المتوازن المتكافل- على النفس والحياة، أو على النظام العام، أو على الملكية الفردية؛ جريمة بشعة منكرة، مجردة عن البواعث المبررة- أو المخففة- بصفة عامة.. وهذا يفسر التشدد ضد الجريمة والمجرمين بعد تهيئة الظروف المساعدة على الاستقامة عند الأسوياء من الناس؛ وتنحية البواعث على الجريمة من حياة الفرد وحياة الجماعة.. وإلى جانب هذا كله، ومع هذا كله؛ يكفل النظام الإسلامي للمجرم المعتدي كل الضمانات لسلامة التحقيق والحكم؛ ويدرأ عنه الحدود بالشبهات؛ ويفتح له كذلك باب التوبة التي تسقط الجريمة في حساب الدنيا في بعض الحالات، وتسقطها في حساب الآخرة في كل الحالات.
.. وسنرى نماذج من هذا كله في هذا الدرس، وفيما تضمنه من أحكام..
ولكن قبل أن نأخذ في المضي مع السياق وفي الحديث المباشر عن هذه الأحكام التي تضمنها لابد أن نقول كلمة عامة؛ عن البيئة التي تنفذ فيها هذه الأحكام؛ والشروط التي تجعل لها قوة النفاذ.
إن هذه الأحكام الواردة في هذا الدرس- سواء فيما يتعلق بالاعتداء على النفس أو الاعتداء على النظام العام؛ أو الاعتداء على المال- شأنها شأن سائر الأحكام الواردة في الشريعة، في جرائم الحدود؛ والقصاص؛ والتعازيز.. كلها إنما تكون لها قوة التنفيذ في المجتمع المسلم في دار الإسلام.. ولابد من بيان ما تعنيه الشريعة بدار الإسلام:
ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما:
الأول: دار الإسلام.. وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين. أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمونه بشريعة الإسلام. أو كانوا مسلمين، أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون، غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام.. فالمدار كله في اعتبار بلد ما دار إسلام هو تطبيقه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام..
الثاني: دار الحرب. وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام.. كائناً أهله ما كانوا.. سواء قالوا: إنهم مسلمون، أو إنهم أهل كتاب، أو إنهم كفار، فالمدار كله في اعتبار بلد ما دار حرب هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر دار حرب بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة.
والمجتمع المسلم، هو المجتمع الذي يقوم في دار الإسلام بتعريفها ذاك.
وهذا المجتمع القائم على منهج الله، المحكوم بشريعته، هو الذي يستحق أن تصان فيه الدماء، وتصان فيه الأموال؛ ويصان فيه النظام العام؛ وأن توقع على المخلين بأمنه، المعتدين على الأرواح والأموال فيه العقوبات التي تنص عليها الشريعة الإسلامية، في هذا الدرس وفي سواه.. ذلك أنه مجتمع رفيع فاضل؛ ومجتمع متحرر عادل؛ ومجتمع مكفولة فيه ضمانات العمل وضمانات الكفاية لكل قادر ولكل عاجز؛ ومجتمع تتوافر فيه الحوافز على الخير وتقل فيه الحوافز على الشر من جميع الوجوه. فمن حقه إذن على كل من يعيش فيه أن يرعى هذه النعمة التي يسبغها عليه النظام؛ وأن يرعى حقوق الآخرين كلها من أرواح وأموال وأعراض وأخلاق؛ وأن يحافظ على سلامة دار الإسلام التي يعيش فيها آمناً سالماً غانماً مكفول الحقوق جميعاً، معترفاً له بكل خصائصه الإنسانية، وبكل حقوقه الاجتماعية- بل مكلفاً بحماية هذه الخصائص والحقوق- فمن خرج بعد ذلك كله على نظام هذه الدار- دار الإسلام- فهو معتد أثيم شرير يستحق أن يؤخذ على يده بأشد العقوبات؛ مع توفير كل الضمانات له في أن لا يؤخذ بالظن، وأن تدرأ عنه الحدود بالشبهات.
فأما دار الحرب.. بتعريفها ذاك.. فليس من حقها ولا من حق أهلها أن يتمتعوا بما توفره عقوبات الشريعة الإسلامية من ضمانات، لأنها ابتداء لا تطبق شريعة الإسلام، ولا تعترف بحاكمية الإسلام.. وهي- بالنسبة للمسلمين (الذين يعيشون في دار الإسلام ويطبقون على حياتهم شريعة الإسلام)- ليست حمى. فأرواحها وأموالها مباحة؛ لا حرمة لها عند الإسلام- إلا بعهد من المسلمين؛ حين تقوم بينها وبين دار الإسلام المعاهدات- كذلك توفر الشريعة هذه الضمانات كلها للأفراد الحربيين (القادمين من دار الحرب) إذا دخلوا دار الإسلام بعهد أمان؛ مدة هذا العهد؛ وفي حدود دار الإسلام التي تدخل في سلطان الحاكم المسلم (والحاكم المسلم هو الذي يطبق شريعة الإسلام).